التخطي إلى المحتوى الرئيسي

معضلة السد والتكيف

قبل الحديث عن مفهوم "معضلة السد" لا بد من المرور على مفهوم "التكيف"، وكما هو معروف فللتكيف أنواع كثيرة؛ أهمها: التكيف النفسي وهو ما يتعلق بسلوك الفرد نتاج قدرته على الإدراك.


وبحكمة من الله تعالى فإن الكائنات جميعها تمتلك القدرة على التكيف بمحيطها ومع المتغيرات في سبيل البقاء والاستمرار، إلا في حالات نادرة يصعب فيها التكيف، ومن تلك الكائنات الإنسان الذي وهبه الله  ﷻ  قدرة عجيبة على التكيف الجسدي والنفسي والعقلي. 


ومن أهم الأمور التي تكيف معها الإنسان هي المتغيرات عامة ومنها المتغيرات الفكرية خاصة؛ حيث يخضع الإنسان للتكيف مع تلك المتغيرات بشكل تدريجي متأثرا بعوامل كثيرة، أهمها الإحساس فإما أن يكون التكيف إيجابيا من خلال الإحساس بما حوله أو أن يكون التكيف سلبيا وذلك بوقوعه في الاضطراب، كذلك التخطيط فإما أن يكون التكيف إيجابيا من خلال التخطيط الجيد ورسم التوقعات والاحتمالات وطرق التصرف فيها أو أن يكون التكيف سلبيا بسبب قصر العقل أو اللامبالاة، وأيضًا الرغبة والقناعة فإما أن يكون التكيف بشكل إيجابي من خلال الإرادة المتقدة المتجددة أو أن يكون التكيف سلبيا بسبب فتور الهمة أو الوقوع بفخ العجز.


وبهذا يتضح مفهوم التكيف الذي يدفع الإنسان إلى التمسك بالبقاء ولو على حساب التضحية بالثوابت عنده؛ أو التمسك بالثوابت ولو على حساب التضحية بالبقاء، وفي الحالتين يتكيف الأفراد لينعكس ذلك على المجموعات ثم على عموم الشعب، فيصلون لمرحلة عالية من التناغم في العمل وطرق التفكير والتنفيذ إلا في حالات قليلة تحاول إيجاد تكيف جديد يتناسب مع الحالة العقلية لديهم.

 

"معضلة السد" مرتبطة بشكل وثيق مع التكيف، ومفهومها بشكل مختصر: هي حالة اللاشعور مع توفر الإمكانية للإدراك، فينتج عنها قرارات كارثية بدون أدنى وعي لخطورتها.


ولتوضيحها وتبسيطها نضرب هذا المثال المشهور: مجموعة من الناس تعيش قرب سد مائي يعرف أهل الاختصاص أنه غير جيد البناء ويتخلله شقوق..، لو جئنا للناس الذين يسكنون قربه وقلنا لهم: ما هي تدابيركم وخططكم في حال انهار السد فجأة، فالجواب المتوقع هو نفي انهياره بداية!، ثم لو اجتهدنا في إقناعهم باحتمالية انهياره فلن نجد أي جواب منطقي سليم برغم التأكد من سلامتهم العقلية..

ثم لو جئنا على مجموعة أخرى من الناس تعيش بعيدا قليلًا عن السد ووجهنا لهم نفس السؤال، سنجد أجوبة منطقية عقلانية أكثر، وهكذا كلما زاد بعدنا عن نقطة الخطر زاد التقبل للكلام المنطقي.

والسبب المباشر وراء اختلاف آراء القريبين من السد والبعيدين عنه هو اختلاف درجة الخوف بينهم، فمن يعيش على تخوم السد من الطبيعي أن يدفع فكرة انهياره؛ لأن ذلك يعني موتا كارثيا محققا وفناء له ولعياله ولممتلكاته وفي لحظة واحدة يتحولون إلى جثث مفقودة أو أشلاء متناثرة، أما أولئك الذين يعيشون أبعد فدرجة تخوفهم من مصير أسود أقل، وهذا يعطيهم أملا حول وجود فرصة للنجاة مما يدفعهم للتفكير العقلاني ووضع خطط في سبيل البقاء وتجنب الكارثة. 

 

معضلة السد من الممكن أن نراها في الساحة السورية على مستوى مجموعات من عوام الناس أو على مستوى قادة عسكريين أو سياسيين، وهي فكرة (لن يحصل هذا، ومستحيل أن يحدث كذا وو.. إلخ) وفي الغالب يقع ما يتم تأكيد عدم وقوعه أو عدم ترجح احتماليته..


وعلى سبيل المثال: حينما دخلت النقاط التركية اطمأن بعض السكان بجوارها، ورغم تقدم العدو إلا أن الناس هناك كانت تسيطر عليهم فكرة عدم تجرؤ العدو على التقدم أكثر إلى قرب النقاط فضلا عما بعدها، ولكن حصل خلاف تلك التوقعات بل حُوصرت النقاط التركية ذاتها، وبالكاد خرج معظم الناس بما عليهم من لباس فقط. 


وكذلك رأينا مثالا واقعيا آخر: وهو اقتناع بعض القادة العسكريين بفكرة أن (تركيا لن تسمح للعدو بأخذ منطقة كذا؛ لأنها إستراتيجية) وحينما بدأ العدو في العمل على تلك المنطقة لم يجد تحصينات جيدة ولا دفاعات حقيقية وكان من السهل عليه اجتياحها.


والمعضلة "معضلة السد" تكون دائمًا في أن التبريرات كثيرة ومتتابعة وكلها تصب في خانة تبرير ما حصل من "انهيار السد" وليست في خانة أسباب الانهيار ودراسة الاحتماليات الجديدة والتعلم من الدرس السابق!


وهذا يذكرنا بأيام أن كنا طلابا، وقبيل الامتحانات ونحن نراجع ونذاكر نمر على فقرة ما فنقفز عنها ونتجاهل حفظها تحت فكرة "من غير المعقول أن معد الأسئلة سيضع لنا مثل هذا السؤال"، وفي الغالب نجد هذه الفقرات بعينها موجودة في أول لائحة الأسئلة، والأغرب أننا نتفاجأ كيف تم وضع مثل هذا السؤال!!، ولا نفكر في أن الأصل أنه لا مانع من وضع السؤال؟ ومن الذي يُلام واضع السؤال المقرر ضمن المنهاج أم من لم يُذاكر جيدًا؟


* نأخذ المدة الكافية من كل هدنة تدخل فيها الساحة السورية ولكن مع بداية كل جولة من المعارك الجديدة تكون النتائج متطابقة مع ما سبقها، فنجلس لنتحدث عن حلف العدو القوي وأعداده الكبيرة وخذلان الدول لنا!

ولو خرجت أصوات تقول: إن المشكلة ليست في هذا وإنما "بالمذاكرة الضعيفة وعدم التحضير الجيد للامتحان أو خلل" لخرج سكان "السد" ليرجموا كل مفكر "مرجف" ومخطط "مثبط" ومختص "منافق".. إلخ. بحسب وصفهم وزعمهم.


ويبدو أن العدو المحتل قد حفظ بلا أدنى شك تلك العقلية تمامًا وبات يعمل على أساسها، ولذلك نجد أنه في كل مرة يصبح أكثر سرعة في التقدم وأكثر إصرارا على اختيار محاور القتال، وبكل بساطة عندما يقول: توجد هدنة لا ينتظر موافقة أحد أو رفضه ويمضي فيها مطمئن البال لعلمه بأن "سكان السد بكبارهم" جالسون ينتظرون أن يلتحم الصدع وتترمم التشققات بفعل العوامل الجوية والتغيرات المناخية!؛ حيث يظن سكان السد أنه لم يكن ولم يعد عندهم ما يقدمونه في سبيل منع تدفق الفيضان عندما يأتي!


تلك طريقة تفكير العدو الذي يفهم جيدًا ما يفكر به رؤوس قوم عدوه "ولذلك كانت أولى أهداف الثورة إسقاط مفهوم الواقع المرير لإيجاد واقع متناسب مع متطلباتها وتحقيق أهدافها والتمرد على العقلية المؤطرة في سبيل إيجاد فرص جديدة مهما كانت صغيرة". 


- إن الفرص أنواع؛ فمنها ما يأتي فيُقتنص، ومنها ما يُصنع فيُستغل، ومن أكبر مسببات الفشل تكرار المكرر وتجريب المجرب، يقول ألبرت إينشتاين: "‏الغباء هو فعل نفس الشيء مرتين بنفس الأسلوب ونفس الخطوات وانتظار نتائج مختلفة".


والمصيبة فيمن لا يرى الخطأ خطأ أو يرى الخطأ صوابا، أو أفضل ما يمكن، ولولاه لما كان الصواب صوابا.. وبرغم تتابع الحقائق المدوية؛ إلا أنها لا تنفع من حيث مبدأ الإصغاء للصوت المخالف.


وتكمن المشكلة كذلك في أن البناء المعماري الغريب بتصميمه يُبهر عامة الناس، لكن المهندسين وحدهم هم من يعرفون العيوب، والثوب الجميل البراق الذي يجذب انتباه الناس، الخياطون وحدهم هم من يعرفون قيمته الحقيقية وتكلفته الفعلية، وبالقياس قيل: "من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب".


-أدهم عبد الرحمن الأسيف-

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بين الإعمار وأثر الدمار

أيهما أفضل؛ إزالة آثار الحرب والنهوض بإعمار بقعة المحرر، أم ترك آثار الحرب؟ إزالة آثار الحرب والانشغال بالمشاريع و"نهضة" المحرر، وإن كانت تحمل معها إيجابيات، إلا أن سلبياتها أكبر بالمنظور القريب والبعيد. والأسباب يمكن توضيحها أو لفت الانتباه لها كالآتي: -غياب آثار الدمار والحرب سينعكس سلبًا على مسيرة الثأر في النفوس الملتهبة، ولا يعني ذلك ترك الطرقات سيئة والدمار الذي يعطل سير الحياة، إنما القصد سيتبين فيما يأتي. -بناء المشاريع الضخمة من مطاعم ومنتزهات وغيرها، يصرف الجهد عما هو أولى، ألا وهو صب الجهد والمال في طريق التحرير، ثم أن الذي يرتاد تلك الأماكن غالبًا ليسوا مقاتلين، أولئك الذين هم أولى بالتفكير بمشاريع يستفيدون منها بشكل مباشر بدل أن يستفيد "التجار" على حساب رباط وثبات المجاهدين. -النفس تتطبع مع ما يتكرر أمام العين من رؤيا، ورؤية المحرر منشغل بالعمار والمشاريع وضخ الأموال الضخمة، سيصرف الناس إلى أن تعتاد حياتها وتبتعد عن فكرة التضحية والعودة للدمار والخوف على الحياة ومصالها. -الحدائق العامة والكافيتريات وغيرها من مشاريع الترفيه، غالبًا يرتادها فئة الشباب، وأ

النصيرية من أقلية مهمشة إلى سلطة الاستبداد المطلق

من أقلية على هامش التاريخ والجغرافيا إلى قوة وحيدة في سوريا الحديثة! في عام 1921ميلادي أي بعد احتلال فرنسا لسوريا بعام واحد، افتتحت باب الانتساب ضمن ما أسمته "الفيلق السوري" وعُرف أيضًا باسم "قوات الشرق الخاصة". كان التركيز الفرنسي على جذب الأقليات المذهبية والعرقية تحديدًا "النصيرية" كما تشير الكثير من الدراسات والكتب المتعلقة بتأريخ سوريا الحديثة. وجد العلويين فرصة لهم في التطوع، ففرنسا قدمت لهم ترغيبات كثيرة منها منحهم فرصة لتلقي تعليم جيد، بالإضافة للرواتب المغرية للطائفة الفقيرة المشتتة، كما أن الخدمة العسكرية منحتهم شيء من السلطة تحت الحماية الفرنسية، كما صار بإمكانهم التوغل في المدن للتعايش مع المدن الحضرية بسبب أماكن خدمتهم بعدما كانوا في الجبال والأرياف المهمشة، وكلما زادت المغريات تضاعف تدفق النصيرية على وجه الخصوص للالتحاق بالفيلق. أما أهل السُنَّة وهم الغالبية الساحقة في البلد، فكان موقف الغالبية منهم بالنسبة للخدمة العسكرية تحت الاحتلال الفرنسي سلبي جدًا، إذ كانوا يعتبرونه عار وذل وخيانة، وبالتالي فكان الواقع الطبيعي أن يتنامى نفوذ النصيرية تح